د. بدر عبد الحميد هميسه
بسم الله الرحمن الرحيم
كانت العرب قديما إذا ولد لها شاعر في قبيلة من القبائل وطلع نجمه وذاعت شهرته كانوا يقيمون لذلك الأفراح الأيام والشهور احتفالا واحتفاءً بمولد هذا الشاعر الذي سيصبح لسان القبيلة والآلة الإعلامية التي سوف تعبر عن آمالها وآلامها , بل يستطيع هذا الشاعر أن يحول انكساراتها إلى انتصارات وأحزانها إلى أفراح ومسرات , والشواهد على ذلك كثيرة منها ما روي من قصة عمرو بن كلثوم مع ملك الحيرة ومعلقته الشهيرة (أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا ) والتي قيلت في ذلك , فقد روا أن عمرو بن هند ملك الحيرة قال لندمائه مرة : هل تعلمون أحداً من العرب تأنف أمه خدمة أمي؟ . قالوا: نعم أم عمرو بن كلثوم الشاعر الصعلوك , فدعا الملك عمرو بن كلثوم لزيارته، ودعا أمه لتزور أمه، وقد اتفق الملك مع أمه أن تقول لأم عمرو كلثوم بعد الطعام: ناوليني الطبق الذي بجانبك، فلما جاءت قالت لها ذلك فقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فأعادت عليها الكرة وألحت، فصاحت ليلى أم عمرو بن كلثوم: وا ذلاه يا لتغلب , فسمعها ابنها فاشتد به الغضب فرأى سيفاً للملك معلقاً بالرواق فتناوله وضرب به رأس الملك عمرو بن هند، ونادى في بني تغلب وانتهبوا ما في الرواق، ونظم قصيدة يخاطب بها الملك قائلاً:
بِاَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرُو بْنَ هِنْدٍ * * * نَكُوْنُ لِقَيْلِكُمْ فِيْهَا قَطِيْنَا
بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ * * * تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِيْنَا
تَهَدَّدُنَا وَتُوْعِدُنَا رُوَيْداً * * * مَتَى كُنَّا لأُمِّكَ مَقْتَوِيْنَا
فَإِنَّ قَنَاتَنَا يَا عَمْرُو أَعْيَتْ * * * عَلى الأَعْدَاءِ قَبَلَكَ أَنْ تَلِيْنَا
إلى أن يقول في آخر معلقته: :
وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْواً * * * وَيَشْرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَا
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً * * * أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِيْنَا
مَلأْنَا البَرَّ حَتَّى ضَاقَ عَنَّا * * * وَظَهرَ البَحْرِ نَمْلَؤُهُ سَفِيْنَا
إِذَا بَلَغَ الفِطَامَ لَنَا صَبِيٌّ * * * تَخِرُّ لَهُ الجَبَابِرُ سَاجِديْنَا
وأيضاً ما جاء في كتاب : العمدة لابن رشيق (1 / 11) والمحاضرات في اللغة والأدب لليوسي 1 / 16 .
من أن بني أنف الناقة : كانوا يفْرَقُون من هذا الاسم، حتى إن الرجل منهم يُسأل: ممن هو ؟ فيقول : من بني قُريع، فيتجاوز جعفراً أنفَ الناقة بن قريع بن عوف بن مالك , ويلغي ذكْره فراراً من هذا اللقب، إلى أن نقل الحطيئة واسمه جرول بن أوس جدهم وهو بغيض بن عامر بن لؤي بن شماس بن جعفر أنف الناقة من ضيافة الزبرقان بن بدر إلى ضيافته وأحسن إليه فقال:
سِيري أمامُ فإن الأكثرين حصاً * * * والأكرمين إذا ما ينسبون أباً
قوم هم الأنف، والأذناب غيرُهم * * * ومن يساوي بأنف الناقة الذنَباً؟
فصاروا يتطاولون بهذا النسب , ويمدُّون به أصواتهم في جَهارة.
وإنما سمي جعفر أنفَ الناقة لأن أباه قسَّم ناقة جزوراً ونسيه، فبعثتْه أمُّه ولم يبق إلا رأس الناقة، فقال له أبوه: شأنك بهذا، فأدخل أصابعه في أنف الناقة وأقبل يجره، فسمِّي بذلك.
وفي مقابل ذلك كما جاء في : محاسن الشعر وآدابه (1 / 11) والمحاضرات في اللغة والأدب 1 / 16.
من أن بني نُمير: كانوا من جمَرات العرب , المستغنين بقوتهم وعددهم عن طلب حِلْف، وكانوا يفتخرون بهذا الاسم ويمدُّون به أصواتهم إذا سئلوا ، إلى أن هجا جريرٌ عبيدَ بنَ حصين الراعي منهم بقصيدته التي يقول فيها مخاطباً له :
فغضَّ الطرفَ إنك من نميرٍ * * * فلا كعباً بلغتَ ولا كِلابا
ولو وُضِعتْ شيوخُ بني نمير * * * على الميزان ما عدلَتْ ذُبابا
فسقطوا ولم يرفعوا بعد ذلك رأساً ، حتى كانوا لا يتسمَّون بهذا الاسم، فإذا قيل للواحد منهم من أنت ؟ . قال: عامريّ.
قال الجاحظ في البيان والتبيين ( 4/23) : وهل أهْلَك عَنَزة وجَرماً وعُكلاً وسَلولَ وباهلةَ وغنياً إلا الهجاء ؟!.
بل كان الشاعر يستطيع أن يزوج من لا يستطيع الزواج كما جاء في قصة الأعشى مع المحلق الكلابي , ففي العمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق القيرواني (1 / 11) والمحاضرات في اللغة و الأدب لليوسي (1 / 16) والأغاني (9 / 133) قال صاحب الأغاني :أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي مما أجازه له عن العتبي عن رجل من قيس عيلان قال:كان الأعشى يوافي سوقَ عكاظ في كل سنة , وكان المحلَّق الكلابي مِِئناثا مُمْلقاً , فقالت له امرأتُه : يا أبا كلاب ما يمنعك من التعرُّض لهذا الشاعر؟ فما رأيتُ أحداً اقتطعه إلى نفسه إلا وأكسبَه خيرا ,قال ويحكِ ما عندي إلا ناقتي وعليها الحمل , قالتِ اللهُ يخلفها عليك , قال فهل له بُدٌ من الشراب والمسوح ؟ قالت إن عندي ذخيرةً لي ولعلي أن أجمعها , قال فتلقَّاه قبل أن يسبِق إليه أحدٌ , وابنه يقوده فأخذ الخطام , فقال الأعشى : من هذا الذي غلبنا على خطامنا ؟ قال المحلَّق, قال شريف كريم ثم سلَّمه إليه , فأناخه فنحرَ له ناقتَه وكشَطَ له عن سنامها وكبدها ثم سقاه , وأحاطت بناتُه به يغمِزنه ويمسحْنه , فقال ما هذه الجواري حولي ؟ قال بناتُ أخيك وهنَّ ثمان شريدتُهن قليلة , قال : وخرج من عنده ولم يقل فيه شيئاً , فلما وافى سوقَ عكاظ إذا هو بسَرْحةٍ قد اجتمع الناسُ عليها وإذا الأعشى ينشدهم:
أرقتُ وما هذا السُّهادُ المؤرِّقُ * * * وما بيَ منْ سقمٍ وما بيَ معشقُ
وَلَكِنْ أرَاني لا أزَالُ بِحَادِثٍ * * * أغادى بمات لمْ يمسِ عندي وأطرقُ
ومنها أيضا :
لَعَمرِي، لَقد لاحَتْ عُيُونٌ كَثيرَة ٌ* * * إلى ضَوءِ نَارٍ في يَفَاعٍ تُحَرَّقُ
تُشَبّ لمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا، * * * وَبَاتَ عَلى النّارِ النّدَى وَالمُحَلَّقُ
رضيعيْ لبانٍ ثديَ أمًّ تحالفا، * * * بِأسْحَمَ داجٍ عَوْضُ لا نَتَفَرّقُ
يداكَ يدا صدقٍ فكفٌّ مفيدة ٌ، * * * وأخرى ، إذا ما ضنّ بالزّادِ، تنفقُ
ترَى الجُودَ يَجرِي ظاهراً فوْقَ وَجهه * * * كمَا زَانَ مَتنَ الهِندُوَانيّ رَوْنَقُ
طويلُ اليدينِ، رهطهُ غيرُ ثنية ٍ،* * * أشمُّ كريمٌ جارهُ لا يرهَّقُ
كذلكَ فافعلْ ما حييتَ إليهمً، * * * وَأقْدِمْ إذا ما أعيُنُ النّاسِ تَبْرَقُ
فما أتم الأعشى قصيدته إلا والناس ينسلون إلى المحلق يهنئونه، ثم أتى المحلق الأعشى فسلم عليه, فقال الأعشى: مرحباً بسيد قومه, ثم نادى: يا معشر العرب: هل منكم مذكار يزوج ابنه إلى الشريف الكريم؟ فتسابق الأشراف إليه جرياً يخطبون بناته، فما قام من مقعده وفيهن مخطوبة إلا وقد زوجها، ولم تمس واحدة منهن إلى في عصمة رجل خير من أبيها وأفضل.
وهكذا كان الشِّعر ديوانُ العرَب وسجلُّهم النفيسُ الذي حفِظَ تراثهم وتاريخَهم وآدابَهم وأخلاقَهم , بل ومُتحَفُهم الناطقُ الذي دوَّنوا فيه أخبارَ أبطالهم ووقائعَ بطولاتهم وما تفرَّدت به قرائحُ حكَمائهم وفُضَلائهم من حِكَمٍ بليغة وأمثالٍ بديعة , ولولا الشعر العربيُّ لما عُرِفت الآدابُ العربيةُ ولما شُهِرت القبائلُ وأخبارُها في مخالفاتِها وتناقضاتِها وفي تحاربِها وتسالُمِها.
ولولا الشعر لما عُرِفت الجغرفيا العربيةُ , ومواقعُ الصحراء ومرابعُها وواحاتُها , وجبالُها ووديانُها, فإن كل ذلك مدوَّن في أشعار الشعراء مخلَّد فيها .
ولولا الشعر لما اغْتنتْ خزانةُ العلوم العربية بكل ما تحفل به الآن من مواضيع البلاغة والبيان والنحو واللغة , فضلاً عن مواضيع العلوم الإسلامية .
قال يونس : لولا شعر الفرزدق لذهب نصف أخبار الناس اهـ كما في البيان والتبيين للجاحظ 1 / 170. وحينما جاء الإسلام شجع على قول الشعر ولم يقف منه موقف العداء كما يعتقد البعض ,بل نهى منه عن قول الفحش والزور والخوض في الأعراض , والكذب على الناس , كما في قصة الحطيئة مع الزبرقان بن بدر , فقد كان الزبرقان بن بدر لقي الحطيئة في سفر فقال: من أنت؟ فقال: أنا حسب موضوع أبو مليكة. فقال له الزبرقان: إني أريد وجهاً، فصر إلى منزلي وكن هناك حتى أرجع فصار الحطيئة إلى امرأة الزبرقان، فأنزلته وأكرمته، فحسده بنو عمه، وهم بنو لأي فدسوا إلى الحطيئة وقالوا له: إن تحولت إلينا أعطيناك مائة ناقة، ونشد إلى كل طنب من أطناب بيتك حلة محبرة، وقالوا لامرأة الزبرقان: إن الزبرقان إنما قدم هذا الشيخ ليتزوج بنته، فقدح ذلك في نفسها، فلما أراد القوم النجعة تخلف الحطيئة وتغافلت امرأة الزبرقان عنه، فاحتمله القريعيون ووفوا له بما قالوا، فأخذ في مدحهم وهجا الزبرقان فقال:
أزمعتُ يأساً مبيناً من نَوالكم * * * ولا تَرى طارداً للحرِ كالياس
دع المكارمَ لا ترْحلْ لبغيتها * * * واْقعد فإنك أنتَ الطاعمُ الكاسي
من يفعلِ الخيرَ لا يعدم جوازيهُ * * * لا يذهبُ العرفُ بين الله والناسِ
فاستعدى الزبرقان عليه، فحكم عمر حسان فقال حسان: ما هجاه ولكن سلح عليه. ثم حبس عمر الحطيئة فقال يستعطفه:
ماذا تقولُ لأفراخ بذي مَرَخٍ * * * حمرِ الحواصِلِ لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعرِ مظلمةٍ * * * فاغفرْ عليكَ سلامُ الله يا عمرُ
ما آثروكَ بها إذ قدموك لها * * * لكنْ لأنفسِهم كانت بكَ الأثر
فأخرجه عمر وأجلسه على كرسي، وأخذ شفرة وأوهمه أنه يريد قطع لسانه، فضج وقال: إني والله يا أمير المؤمنين، قد هجوت أمي وأب ونفسي فتبسم عمر وقال: ما الذي قلت؟ قال: قلت لأبي وأمي:
ولقد رأيتك في النساء فسؤتِني * * * وأبا بينك فساءَني في المجلسِ
وقلت لأبي خاصة:
فبئس الشيخُ أنتَ لدى تميم * * * وبئس الشيخ أنت لدى المعالي
وقلت لأمي خاصة:
تنحي فاجلسي مني بعيداً * * * أراحَ اللّه منكِ العالمينا
أَغربالاً إذا استُوْدعتِ سراً * * * وكانُوناً على المتحدثينا
وقلت لامرأتي خاصة:
أطوّف ما أطوّفُ ثم آوي * * * إلى بيتٍ قَعيدته لَكاعِ
وقلت لنفسي:
أبت شفتاي اليومَ إلاّ تَكَلُماً * * * بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائلهُ
أرى ليَ وجهاً قبّحَ اللّه خلقهُ * * * فقبّحَ من وجهٍ وقبحَ حاملهُ
ثم خلى سبيله عمر، وأخذ عليه ألا يهجو أحداً، وجعل له ثلاثة آلاف درهم اشترى بها من أعراض المسلمين، فقال يذكر نهيه إياه عن الهجاء ويتأسف:
وأخذتَ اطرار الكلامِ فلم تدع * * * شتماً يضرُّ ولا مديحاً ينفعُ
ومنعتني عِرضَ البخيل فَلم يخفْ * * * شتمي وأصبح آمناً لا يجزعُ
فالشعر الهادف الذي يدعو إلى الخير ويحث على البر والانتصار للحق والصدق فقد ندب إليه الإسلام وحث عليه , قال تعالى : \" وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) سورة الشعراء .
وعَنْ عَدِيٍّ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ ، قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ : اهْجُهُمْ ، أَوْ هَاجِهِمْ ، وَجِبْرِيلُ مَعَكَ.
- وفي رواية : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ : اهْجُ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ مَعَكَ.
أخرجه أحمد 4/286(18725) و\"البُخَارِي\" 4/136(3213) و\"مسلم\" 7/163(6470) .
وعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ، قَالَ : مَرَّ عُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ ، وَحَسَّانُ يُنْشِدُ ، فَقَالَ : كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ ، وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ : أَنْشُدُكَ بِاللهِ ، أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : أَجِبْ عَنِّي ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ؟ قَالَ : نَعَمْ.أخرجه مُسْلم 7/162(6467).
ودخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الحرَم وبين يديه عبدُ الله بن رواحة ينشده :
خلُّو ا بني الكفار عن سبيلِه *** اليوم نضربُكم على تنزيلِه
ضرباً يُزيل الهامَ عن مقيلِه *** ويُذهل الخليلَ عن خليلِه
فقال عمر : وفي حرم الله وبين يدَي رسول الله تقولُ الشعر ، فقال النبي : خلِّ عنه يا عمر فو الذي نفسي بيده لهو أشدُّ عليهم من نضْح النبل\" . أخرجه النسائي في كتاب الحج ( 2873) والترمذي في الأدب برقم (2847) .
بل يقول النبي صلى الله عليه وسلم ( جاهدوا المشركين بأموالكم وأيديكم وألسنتكم ) أخرجه النسائي برقم (3096) وأبو داود برقم (3501) إلا أنه قال (وأنفسكم ) بدلاً من قوله ( وأيديكم ) كلا هما من حديث أنس كما في صحيح الجامع برقم (3090) .
وفي صحيح مسلم برقم (670) من طريق سماك بن حرب قال : قلت لجابر بن سمرة أكنتَ تجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال نعم كثيراً كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح أو الغداة حتى تطلع الشمسُ فإذا طلعت الشمسُ قام, وكانوا يتحدَّثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسَّم. وعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ بَيِّنٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم « إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا وَإِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حُكْمًا.أخرجه أحمد 1/269(2424) و\"البُخَارِي\" في (الأدب المفرد) 872 .
وعن عَمْرَو بْنَ الشَّرِيدِ , عن أبي , قال:رِدْفتً رَسُولِ الله , صلى الله عليه وسلم , يوما فَقَالَ : هل َمَعَكَ مِنْ شِعْرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِى الصَّلْتِ شَىْءٌ ؟ قال : هيه , فَأَنْشَدْتُهُ بَيْتًا , فقال : هيه. ثم أنشدته بيتا. فقال : هيه , حَتَّى أَنْشَدْتُهُ مِئَةَ بَيْتٍ. أخرجه أحمد 4/338(19686) و\"البُخَارِي\" في (الأدب المفرد) 799.
وكلمةُ الفصْل في ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو . قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: الشِّعْرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَلاَمِ : حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلاَمِ ، وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلاَمَ. أخرجه البخاري في \"الأدب المفرد\" 865 .
فكما كان حول النبي صلى الله عليه وسلم أبطال صناديد بسيوفهم من أمثال : خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص ومصعب بن عمير وغيرهم , فقد كان حوله كذلك أبطال صناديد بسيوف ألسنتهم من أمثال : حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وزيد بن حارثة وغيرهم .
ولقد كان الخلفاء الراشدون بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستمعون إلى الشعراء ويتفاعلون معهم ويتأثرون بما يقولون .
جاء أعرابي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
يا عمرَ الخير جُزيت الجنَّـهْ *** أُكْسُ بنيَّاتي وأمهنَّـهْ
أقسِـم بالله لتفعلنَّـهْ
فقال له عمر: فإن لم أفعلْ يكون ماذا؟ قال:
إذاً أبا حفصٍ لأذهبنّـَهْ
قال: فإذا ذهبتَ يكون ماذا ؟ قال:
تكونُ عن حالي لتسألنَّـهْ *** يوم تكونُ الأُعطياتُ منّـَهْ
والواقفُ المسئول بينهنَّـهْ *** إمَّا إلى نارٍ وإمَّـا جنَّـهْ
قال: فبكى عمر حتى اخضلَّت لحيتُه، ثم قال: يا غلام أَعطِه قميصي هذا لذلك اليوم لا لشعره، أما والله ما أملك غيره .
وجاء في كتاب العمدة : أن أعرابياً وقف على علي بن أبي طالب فقال: إن لي إليك حاجة رفعتها إلى الله قبل أن أرفعها إليك فإن أنت قضيتها حمدتُ الله تعالى وشكرتُك , وإن لم تَقْضها حمدتُ اللهَ تعالى وعذرتُك, فقال له : خطَّ حاجتَك على الأرض ، فإني أرى الضُّرَّ عليك ، فكتب الأعرابي على الأرض : إني فقير, فقال له علي : يا قنبر ادفعْ إليه حلتي الفلانيةَ فلما أخذها بين يديه قال:
كسوتَني حُـلـةً تبلى محاسنُها *** لأكسونَّك من حُسْن الثنا حُلَلا
إن الثناء ليحيى ذِكْـرَ صاحبه *** كالغيث يحي نداهُ السهلَ والجبَلا
لا تزهدِ الدهرَ في عُرْفٍ بدأتَ به ***فكل عبدٍ سيُجزى بالذي فعَلا
فقال علي : ياقنبر أعطِه خمسين ديناراً , أما الحلة فلمسألتك , وأما الدنانير فلأدبك .
وجاء في البيان والتبيين للجاحظ 2/62 قيل لعبيدالله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود : أتقول الشعر مع النسك والفضل والفقه ؟ فقال لا بد للمصدور أن ينفث .
وكانت عائشة أم المؤمنين وابن عباس وعمر رضي الله عنهم أجمعين من رواة الشعر بالمحل الذي لا يُدرك ، حتى حُكي عن عائشة أنها قالت :رَويتُ للبيد اثنى عشر ألف بيت خلاف ما رويتُ لغيره .
قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : خير صناعات العرب أبيات يقدِّمها الرجلُ بين يدَي حاجته , يستميل بها الكريم ويستعطف بها اللئيم . اهـ من البيان والتبيين للجاحظ :1 / 264.
وهذا عمر بن الخطاب في كتاب العمدة يكتب لأبي موسى الأشعري : مُرْ من قِبَلَك بتعلُّم الشعر فإنه يدل على معالي الأخلاق ، وصواب الرأي ، ومعرفة الأنساب .
وهذا معاوية بن أبي سفيان يقول : يجب على الرجل تأديبُ ولده , والشعر أعلى مراتب الأدب.
وهذا الزبير بن بكار يقول :سمعت العمريَّ يقول : رووا أولادكم الشعر , فإنه يحل عقدة اللسان ، ويشجِّع قلبَ الجبان ، ويُطلق يدَ البخيل ، ويحضُّ على الخلق الجميل.
قال طرفةُ بن العبد:
رأيتُ القوافي يتَّلجْنَ موالجاً *** تَضيَّق عنها أن تُوَلَّجَها الإبَرْ
وهذا النابغة الذبياني يقول :
قوافي كالسِِّلام إذا استمرَّتْ *** فليس يردُّ مذهبَها التظنِّي ولقد روى الشعر جُلة من الرجال والعلماء ،من أمثال : الشافعي وابن القيم وابن تيمية وابن حزم وغيرهم , ولقد كان تعلُّمه وإتقانُه والاستشهاد به شرطٌ أوَّليٌ لطلب العلوم الأخرى من فقْه وتفسير وحديث ونحو وبلاغة .
في كتاب : زهر الأكَم في الأمثال والحكَم لليوسي باب\"(فضل الشعر)1/ 19:كان ابن عباس يقول :إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب , فإن الشعر ديوان العرب . وقال أيضا ً: إذا أعْيَتْكُم العربيةُ في القرآن فالتمسوها في الشعر فإنه ديوان العرب .
فهل سيأتي اليوم الذي تعود فيه للشعر قيمته ومكانته ؟ وهل يأتي اليوم الذي نحتفل فيه بميلاد شاعر جديد ؟ .